عندما انطلقت الرصاصات الأولى للحرب جنوب الخرطوم، وتلتها أصوات المدافع، في صباح 15 أبريل 2023، كانت صفاء علي يوسف، طبيبة سودانية، تسير في طريقها إلى المستشفى كالمعتاد. وأثناء الطريق، بدأت الأخبار تتوالى عن المعارك، مما جعلها تشعر فوراً بثقل مسؤولية المرضى والطواقم الطبية على عاتقها، حيث أن جميعهم تحت رعايتها المباشرة. بعد مرور أكثر من عام ونصف على ذلك التاريخ الصعب بالنسبة لها، تلقت صفاء يوسف خبر اختيارها ضمن قائمة “بي بي سي العالمية” لأكثر 100 سيدة تأثيراً وإلهاماً في عام 2024.
لكن بين هذين التاريخين، يبرز تاريخ ثالث يمثل جحيمًا عاشته، حيث شهدت فيه العديد من المشاعر والتجارب والتحديات. أوضحت يوسف لـ “الشرق” أن اتخاذ قرار البقاء كان تحدياً صعباً، إلا أنه كان مدفوعاً بـ “الشعور بالواجب والمسؤولية تجاه المجتمع”. وأشارت إلى أنها كانت تدرك أن جهودها مع زملائها قد تساهم في إنقاذ الأرواح وتخفيف معاناة الكثيرين، وقالت: “هذا ما جعلني أواصل العمل على الرغم من المخاطر والتحديات وبعدي عن عائلتي الصغيرة”.
صبيحة الحرب
ذكرت صفاء يوسف لـ”الشرق” أنها شعرت بالخوف في الساعات الأولى من الحرب بعد وصولها إلى عملها في المستشفى السعودي بأم درمان. ومع ذلك، كان يتعين عليها أن تظل هادئة ومركزة لضمان سلامة المرضى، وبدء تنفيذ خطط الطوارئ على الفور، ثم نقل المرضى إلى أماكن آمنة داخل المستشفى. كان الوضع في العاصمة السودانية بشكل عام صادماً وصعباً للملايين الذين لم يعتادوا على ظروف مشابهة. فرغم أن علامات الحرب كانت واضحة في الأفق وفي محادثات سكان المدينة، إلا أن اندلاع القتال ووقع مختلف أنواع الذخيرة كان مروعاً، بينما كان عشرات الآلاف يسعون للعثور على أماكن آمنة تحميهم من الرصاص الذي يتطاير في كل مكان حينها. كان التحدي الأكبر الذي واجه طاقم المستشفى هو تقديم الرعاية الطبية في ظل نقص الموارد والمخاطر المستمرة. وأشارت صفاء يوسف إلى هذه التجربة بقولها إنهم عملوا كفريق واحد، حيث كان لكل عضو دور معين لضمان استمرار تقديم الرعاية. وأوضحت أنها وفريقها استطاعوا إنقاذ العديد من الأرواح وتقديم الرعاية المطلوبة.
“الأكثر تأثيراً وإلهاماً”
في بداية ديسمبر 2024، أعلنت هيئة الإذاعة البريطانية BBC أن صفاء علي يوسف تُعتبر واحدة من أكثر النساء تأثيراً وإلهاماً لهذا العام، بفضل جهودها في إنقاذ حياة العشرات إن لم يكن المئات، وحرصها على البقاء في مناطق الخطر استجابة لنداء واجبها الطبي. اعتبر وزير الصحة السوداني المكلّف، هيثم محمد إبراهيم، في حديثه لـ”الشرق”، أن إنجاز صفاء يوسف يُعتبر فخرًا لجميع العاملين في القطاع الصحي في البلاد وكذلك للمرأة السودانية. ووصف ذلك بأنه بمثابة رسالة من “الجيش الأبيض” الطبي تُبرز استمرار جهودهم في تقديم الخدمة في المستشفى السعودي بأم درمان رغم الظروف الصعبة والمعقدة الناتجة عن الحرب. وأوضح الوزير السوداني أنه بعد توقف الخدمات في هذا المستشفى، انتقلت صفاء يوسف للعمل في مستشفى آخر، حيث استطاعت هي وزملاؤها إنشاء مراكز فرعية لعلاج المرضى، خصوصاً في مجالات أمراض النساء والتوليد. كما أشار إلى أنها تعمل حالياً على استعادة الخدمات في المستشفى السعودي.
قال إبراهيم إن صفاء يوسف تمثل استمراراً لـ “رمزية” الطبيبات السودانيات، منذ خالدة زاهر وبتول محمد عيسى وزميلاتهما، في خمسينيات القرن الماضي. وأشار الوزير إلى وجود طبيبة أخرى متخصصة في مجال النساء والتوليد، وهي “هديل”، التي تعمل بجد في المناطق التي تسيطر عليها قوات الدعم السريع في الخرطوم منذ أكثر من عام ونصف، حيث تقدم الرعاية الطبية والمساعدة الجراحية لإنقاذ حياة المرضى. ووصفت صفاء يوسف شعورها بالانضمام إلى قائمة 100 سيدة مؤثرة وملهمة حول العالم بأنه “توليفة من الفخر والواجب”، مشيرة إلى أنه “يشرفني جداً أن أكون جزءاً من هذه المجموعة الملهمة من النساء اللواتي أحدثن تأثيرًا حقيقياً في مجالاتهن”. وجدت أن هذا التكريم يعزز إيمانها بقدرة المرأة على إحداث التغيير، ويزيد من دافعها للاستمرار في العمل بجد واجتهاد لتحقيق المزيد من الإنجازات. وقالت إنها تستطيع استغلال هذا التأثير لصالح النساء السودانيات، فهي تؤمن بأن وجود المرأة في المناصب القيادية والتحفيزية يمكن أن يحدث فرقًا كبيرًا في المجتمع ككل. أشارت أنها ستستفيد من هذا التكريم لدعم المبادرات التي تهدف إلى تحسين الصحة للنساء في السودان، بالإضافة إلى مشاركة تجربتها لتحفيز نساء أخريات لتحقيق أحلامهن، ولإثبات أن كل امرأة تستطيع أن تكون مؤثرة وملهمة في مجتمعها بناءً على مجال عملها، كما ذكرت.
من هي صفاء يوسف؟
وُلِدت يوسف في “حي الأمراء” الأصيل في منطقة أم درمان القديمة، لكنها ترى أن مكان الميلاد ليس مجرد موقع جغرافي، بل هو “جزء من الهوية والتاريخ الشخصي الذي يساهم في تشكيل جوانب عديدة من شخصياتنا وحياتنا”. وأشارت لـ “الشرق” أن مدينة أم درمان، بتنوع ثقافتها وعمق تاريخها، كان لها أثر كبير على هويتها، لا سيما في ما يتعلق بتقدير التنوع الاجتماعي والتعدد الثقافي وقيم التواصل الإنساني. أشارت إلى أن الأجواء العائلية والاجتماعية في مدينة أم درمان، حيث يعرف الجميع بعضهم البعض، علمتها قيمة الروابط الأسرية والاجتماعية وأهمية التعاون والمشاركة في السعادة والأحزان. درست صفاء يوسف الطب في جامعة أم درمان الإسلامية، ثم حصلت على الدكتوراه السريرية في طب النساء والتوليد من المجلس السوداني للتخصصات الطبية. كما نالت عضوية الكلية الملكية البريطانية لأطباء النساء والتوليد، وحصلت على ماجستير في الموجات الصوتية المتقدمة من “إيان دونالد”، بالإضافة إلى دبلوم في الخصوبة وأطفال الأنابيب من بيرمنجهام، ودبلوم في الجراحة التجميلية النسائية من نفس المدينة البريطانية.
زواج من نجم الكرة السودانية
صفاء يوسف هي زوجة محمد عبد الله مازدا، نجم نادي المريخ السوداني وقائده السابق، وكذلك المدير الفني السابق للمنتخب السوداني. ولديهما بنتان وولدان، آن وريان وحسن، الذين يدرسون في كلية الطب، بينما عمر في المرحلة الثانوية. لكنها تشعر بشوق عارم لهم جميعاً بعد مغادرتهم السودان بسبب الحرب. وتبدو وكأنها تتصارع بين شوقها لعائلتها واستمرارها في عملها نتيجة “الإحساس العميق بالواجب والمسؤولية تجاه عملها”. وقالت: “أعتقد أن ما أفعله يمكن أن يساعد في تحسين حياة العديد من الأشخاص وتخفيف معاناتهم، وهذا يعطني الدافع للاستمرار في العمل رغم التحديات التي أواجهها في حياتي.” تؤكد الطبيبة السودانية، صفاء يوسف، أنها تسعى دائمًا للتواصل مع أسرتها من خلال وسائل الاتصال المتنوعة، وتعتقد أن الدعم المتبادل والتفاهم مع أفراد عائلتها يساهم بشكل كبير في تحقيق “التوازن بين مسؤولياتي المهنية والعائلية”.
جاذبية الطب
وقالت صفاء يوسف إن دراسة الطب جذبتها بسبب شعورها برغبة قوية في مساعدة الآخرين وتحسين جودة حياتهم من خلال المعرفة والعلم. وأضافت: “كنت أشعر بشغف حقيقي لفهم التحديات الصحية التي يعاني منها الناس والسعي لإيجاد حلول لها”. نحو عامين من الحرب كانت أهوال الحرب تجربة مؤلمة وصعبة لصفاء يوسف، التي أكدت أنها شهدت العديد من المعاناة والألم عن قرب خلال تلك الفترة. ذكرت أنها تأثرت بالأمهات اللواتي فقدن أبناءهن، والأطفال الذين فقدوا آباءهم، وكذلك الجرحى الذين كانوا في أمس الحاجة للعلاج. وأضافت: “من اللحظات المأساوية التي لا يمكن نسيانها، كانت لحظة خروجنا من المستشفى ونحن نحمل جثمان حسن، أحد أفراد الطاقم الإداري في المستشفى. كانت لحظات وداع مؤلمة وحزينة للغاية”، مشيرة إلى أنها اختبرت لحظات من اليأس والأمل. أكدت صفاء يوسف لـ “الشرق” أن الحرب غيّرت رؤيتها لكثير من جوانب حياتها، حيث أصبحت تقيّم الأشياء الصغيرة بشكل أكبر من السابق.
كما تعلمت قيمة الصبر والقوة الداخلية. وأصبحت أكثر وعيًا بأهمية السلام والاستقرار وتأثيرهما العميق على الحياة اليومية. لا تنوي يوسف مغادرة أم درمان إلى أي مكان، حيث تعيش مع شقيقاتها في منزل زوجها. وتعتبر أن حياتهن اليومية مليئة بالتحديات. أما فيما يتعلق بشؤون المنزل، بالإضافة إلى العمل، فإنهن يعملن معًا لإدارة أمورهن بشكل جماعي للتغلب على الصعوبات. وأكدت أنها بعد سنوات من العمل، طورت فلسفتها تجاه الطب لتصبح أكثر شمولاً وإنسانية، مشيرة إلى أن الطب لا يقتصر على علاج الأمراض بل يشمل أيضاً الاهتمام بالمريض. وأكدت على أهمية أن يكون الطبيب متواضعاً ومفتوحاً للتعلم المستمر، كما يجب أن يتحلى بالتعاطف والفهم لمشاعر واحتياجات مرضاه، وأن يعمل بشغف وإخلاص لتخفيف معاناتهم. وتشرح إيمانها بهذا المفهوم من خلال التأكيد على ضرورة أن يكون الطبيب مستمعاً جيداً، ويقدم الدعم النفسي للمريض بجانب العلاج الطبي.